ذبابة الماشية
كتب بواسطة: عادل هشامقالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ” (سورة يونس) في المجتمع التقليدي بقيمه المغلفة بالمقدس، تُعطى الأجوبة سلفا، إنها قيم قبلية سابقة على وجود الفرد. فهذا الأخير يولد فيجدها تنتظره. تعمل ماكينات المؤسسات الاجتماعية المختلفة على برمجته عليها، بواسطة ما يُسمى في أدبيات السوسيولوجيا بالتنشئة الاجتماعية.
ومن البدهي أن هذا المجتمع يستبعد فيه كل سؤال جديد. يترتب عن هذا أن الخصم الحقيقي لهذا النوع من المجتمعات، هو الإنسان الذي يسأل، فالسؤال يمثل بالنسبة لها أظافر تروم خدش و تمزيق الشرنقة البالية التي تخفي كل الأسرار التي تثوي خلفها!. بهذا المعنى يمكن فهم عبارة نيتشه : أن تفكر يعني أن تفكر بمطرقة! والتفكير لا ينطلق إلا بالضغط على زر السؤال.
يتأسس الدرس الفلسفي على السؤال، فلا يمكن تصوره إلا به، وكل درس يتغاضى عنه، يحكم على نفسه بالفشل، كما أنه لا يتأسس على أي سؤال وكيفما اتفق، بل على السؤال الخطير مماثل لذلك الذي يصوغه الطفل قبل تلويثه بالأجوبة الجاهزة. فهو سؤال ليست له إجابة، والسؤال الذي ليست له إجابة ” حاجز ليس وراءه من دروب ” كما يقول ” ميلان كونديرا” في روايته التي تخلب الأذهان “خفة الكائن التي لا تُحتمل”، و يستفيض كونديرا في شرح هذه العبارة فيقول:” إن الأسئلة التي ليس لها أجوبة هي بالضبط التي ترسم حدود القدرات البشرية وتعين تخوم وجودنا”. إن الوجود النمطي وجود بالضرورة قطيعي، ولا أرى أي مجد فيه، ولَأِن سألت الرٍعاع عنه لأنكروه، لكنهم يمارسونه، بل ويدافعون عنه..
لا يبرز الفرد كذات لها لون خاص بها، يميزها عن القطيع، إلا بصوت غير مألوف، لا يشبه في شيء الثغاء المعهود، وهذا بالضبط ما يجعل القطيع يحترز ويهاب، فالسكينة مهددة، و الاطمئنان في خطر.
يكون المتسائل مثل الشاة التي قررت أن تعوي عوض أن تثغي، فلا يرضى عنها لا الراعي ولا القطيع، الأول لأن قطيعه ستسوده الفوضى، وبالتالي سينفلت منه زمام الضبط. والثاني لأنه سيحسبها عدوا ما دامت تتكلم لغة غير لغته.
لقد استنتج الفيلسوف الإنجليزي” برتراند راسل ” أربع مزايا للسؤال لا تقدر بثمن، فهو يعمل على توسع تصورنا للممكن، ويثري خيالنا العقلي، ويقلل من ثقتنا الدوغمائية التي تغلق الفكر وتسد عليه منافذ كل تأمل، وأخيرا يكتسي فكرنا العظمة والجلال، بفضل عظمة و جلال العالم الذي تتأمله (تتساءل عنه) الفلسفة.
والمتأمل في واقعنا سوف لن يبدل مجهودا كبيرا كي يدرك أن هذه المزايا التي يحققها السؤال، تكاد تكون غائبة تماما لدى أفراده. فهناك غياب تام للممكنات بحيث لا يسود إلا خيار فكري واحد ووحيد، وخيالهم خيال فقير كصحراء قاحلة، أما عن الدوغمائية فحدث عن البحر و لا حرج، وأخيرا فإن أسئلتنا لا تتعلق إلا بالتافه من الأمور وسفاسفها، مما يجعلها تنطبع على العقل فتطبعه حتى يصيرها.
و أخيرا ما علاقة كل هذا بذبابة الماشية عنوان هذا المقال؟
إن ذبابة الماشية لقب كان يدعى به سقراط، وكلنا يعلم علاقة سقراط بالسؤال، فهو بالنسبة إليه كان كالمِعول الذي يفتت به كل القيم والأفكار التي كانت رائجة في مجتمعه آنذاك. وبطبيعة الحال، فإن هذا الفعل لم يكن ليروق للعوام ولرجال السلطة، بل كان يزعجهم كل الازعاج، تماما كما تزعج الذبابة الماشية.
و كما تسعى البهيمة إلى قتل الذبابة التي تسبب لها قلقا وتوثرا، صرخت البهيمة في اليونان: ” اقتلوا هذا الرجل.. إنه الأشد خطورة في “أثينا”.
-
الزيارات: 3056